كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فما أغنى عنهم} [الآية: 82] وكلاهما بالفاء. قوله في هذه السورة {من قبلهم} متصل بكون آخر مضمر. وقوله: {كانوا أشد منهم قوة} وكذا معطوفاه إخبار عما كانوا عليه قبل الإهلاك. وإنما قال في فاطر {وكانوا} بزيادة الواو لأن التقدير فينظروا كيف أهلكوا وكانوا اشد، وخصت السورة به لقوله: {وما كان الله ليعجزه} [فاطر: 44] وقال في المؤمن {كانوا من قبلهم كانوا هم أشد} فأظهر كان وزاد لفظه {هم} لأن الآية وقعت في أوائل قصة موسى وهي تتم في ثلاثين آية، فكان اللائق به البسط دون الوجازة ولم يبسط هذا البسط في آخر السورة اكتفاء بالأول والله أعلم. {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} بوضع الأنفس الشريفة في موضع خسيس هو عبادة الأصنام. قال أهل السنة: هذا الوضع كان بمشيئة الله وإرادته لكنه صدر عنهم فأضيف إليهم {والسوأى} تانيث الأسوا وهو الأقبح وهي خبر {كان} فيمن قرأ {عاقبة} بالرفع واسم {كان} فيمن قرأ {عاقبة} بالنصب. و{ثم} لتفاوت الرتبة، وفي التركيب وضع للمظهر موضع المضمر. والمعنى أنهم أهلكوا ثم كانت عاقبتهم السوأى وهي عذاب النار. و{أن كذبوا} المعنى لأن أو بأن كذبوا أو هو تفسير أساؤا على أن الإساءة في معنى القول نحو: نادى وكتب معناه أي كذبوا وجوز جار الله أن يكون السوأى مفعول {أساؤا} و{أن كذبوا} عطف بيان لها، وخبر {كان} محذوف إرادة الإبهام ليذهب الوهم كل مذهب فيكون تقدير الكلام. ثم كان عاقبة الذين اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايا أن كذبوا كذا وكذا مما لا يكتنه كنهه. قال أهل التحقيق: ذكر الزيادة في حق المحسن في قوله: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26] ولم يذكر في الحق المسيء لأن جزاء سيئة سيئة بمثلها، وذكر السبب في العقوبة وهو قوله: {أن كذبوا} ولم يذكره في الآية ليعلم أن إحسانه لا يتوقف على السبب بل فضله كافٍ فيه.
وحين ذكر أن عاقبتهم النار وكان في ذلك إشارة إلى الإعادة والحشر لم يتركه دعوى بلا بينة فقال: {الله يبدأ} يعني من خلق بالقدرة والإرادة لا يعجز عن الرجعة والإعادة. ثم بين ما يكون وقت الرجوع فقال: {ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون} يعني في ذلك اليوم يتبين إفلاسهم ويتحقق إبلاسهم وهو سكوت مع تحير ويأس مع بؤس ويأس لا اليأس الذي هو إحدى الراحتين وذلك إذا كان المرجو أمرًا غير ضروري فيستريح الطامع من الانتظار.
ثم ذكر وجه الإبلاس وذلك قوله: {ولم يمكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين} يجحدونها وقتئذ بقوله: {سيكفرون بعبادتهم} [مريم: 82] أو كانوا في الدنيا كافرين بسببهم. ثم حكى أنهم يعني المسلمين والكافرين {يومئذ يتفرقون} فريق في الجنة وفريق في السعير تفصيله في الآيتين بعده والروضة عندهم كل أرض ذات نبات وماء. وفي الأمثال أحسن من بيضة في روضة يعنون بيضة النعامة وتنكير روضة للتعظيم ومعنى {يحبرون} يسرون بأنواع المسار لحظة فلحظة. حبره إذا سره سرورًا تهلل ببشر. وخصه مجاهد بالتكريم، وقتادة بالتنعيم، وابن كيسان بالتحلية، ووكيع بالسماع. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة لنهرًا حافتاه الأبكار من كل بيضاء رخصة يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط فذلك افضل نعيم الجنة» قال الراوي: سألت ابا الدرداء بم تغنين؟ قال: بالتسبيح.
وروي أن في الجنة لأشجارًا عليها أجراس من فضة، فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحًا من تحت العرش في تلك الأشجار فتحرك تلك الأجراس باصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا. وأما معنى {محضرون} لا يغيبون عنه وقد مر في قوله: {ثم هو يوم القيامة من المحضرين} [القصص: 61] وإنما أهمل ذكر الفسقة من أهل الإيمان اكتفاء بما ذكر في الآيات الأخر كقوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] وكقوله: {إنما التوبة على الله} [النساء: 17] إلى قوله: {تبت الآن} [النساء: 18] قال جار الله: لما ذكر الوعد والوعيد أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد وقال آخرون: لما ذكر عظمته في المبدأ بقوله: {ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق} وفي الانتهاء بقوله: {ويوم تقوم الساعة} وكرر ذكر قيام الساعة للتأكيد والتخويف، أراد أن ينزه نفسه عن كل سوء ويثبت لذاته كل حمد ليعلم أنه منزه عن طاعات المطيعين، محمود على كل ما يوصل إلى المكلفين، مذكور على لسان أهل السموات والأرضين. والتسبيح في الظاهر هو تنزيه الله من السوء والثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما في كل منها من كل نعمة متجددة.
وخص بعضهم التسبيح بالصلاة لما روي عن ابن عباس أنه قال: {تمسون} صلاتا المغرب والعشاء {ويصبحون} صلاة الفجر {وعشيًا} صلاة العصر و{يظهرون} صلاة الظهر أمر بالصلاة في أول النهار ووسطه وآخره، وأمر بالصلاة أول الليل ووسطه وهو العشاء بقوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك وبتأخير العشاء إلى نصف الليل» ولم يأمر بالصلاة في آخر الليل لأن النوم فيه غالب وإنه منَّ على عباده بالإستراحة في الليل بالنوم في مواضع منها قوله: {ومن آياته منامكم بالليل} [الروم: 23] كما يجيء. روي عن الحسن أن الاية مدنية بناء على أنه كان يقول: فرضت الصلوات الخمس بالمدينة وكان الواجب بمكة ركعتين في غير وقت معلوم.
وقول الأكثر إن الخمس فرضت بمكة. قوله: {وعشيًا} معطوف على {حين} وما بينهما وهو قوله: {وله الحمد في السموات والأرض} اعتراض.
قال جار الله: معناه إن على المميزين كلهم من أهل السموات والأرض أن يحمدوه قلت: فيه ايضًا أن الله غني عن تسبيح المسبحين فلو لم يحمده حامد فله استئهال الحمد على الإطلاق ولو حمدوه لعاد نفعه إليهم. وقدم الإمساك لأن الظلمة عدمية والأصل في الأشياء العدم، وقدم العشي على الظهيرة لأجل الفاصلة أو للتنبيه على فضيلة صلاة العصر، ولعل في تقديم الاعتراض المذكور على العشي إشارة إلى هذا ومعنى {ويخرج الحي من الميت} قد سلف مرارًا ويحتمل أن يراد هاهنا اليقظان والنائم لقوله: {وكذلك تخرجون} اي من القبور، فتنبيه النائم بعد اليقظة يشبه الإعادة، وكذا رد الأرض إلى حالة الخضرة والنضرة بعد ذبولها. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يصبح فسبحان الله حين تمسون إلى قوله وكذلك تخرجون أدرك ما فاته من يومه، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته من ليلته» ثم اراد أن يذكر الحجج الباهرة علىستحقاق التسبيح والتحميد له فقال: {ومن آياته أن خلقكم} أي أصلكم أو كلًا منكم كما مر في أول الحج {من تراب} وذلك أن التراب أبعد الشياء عن درجة الإحياء لكثافته ولبرودته ويبسه والحياة بالحرارة والرطوبة، ولكدورته والروح نير ولثقله وخفة الرواح ولسكونه والحي متحرك حساس، ولا تتنافي بين هذا وبين قوله: {خلق من الماء بشرًا} [الفرقان: 54] لأنه أراد الأصل الثاني الذي هو النطفة، أو أراد أن أصل البشر في الظاهر هو التراب والماء وأما النار فللإنضاج، والهواء فللاستبقاء كالزق المنفوخ يقوم بالهواء، و{ثم} لتبعيد الرتبة و{إذا} للمفاجأة أي ثم فاجأتم وقت كونكم بشرًا.
قالوا: فيه إشارة إلى مسألة حكمية وهي أن الله تعالى يخلق أولًا إنسانًا فيتبعه أنه حيوان تام لا أنه يخلق أولًا حيوانًا ثم يجعله إنسانًا، فخلق الأنواع هو المراد الأول ثم تكون الأنواع فيها الأجناس بتلك الإرادة الأولى. وقوله: {بشرًا} إشارة إلى القوة المدركة التي البشر بها بشروا بها يمتاز عن غيره من الحيوانات. وقوله: {تنتشرون} إشارة إلى القوة المتحركة التي بها الحيوان حيوان فكأنه أشار إلى فضله وجنسه، وكان الأولى تقديم الجنس على الفصل، إلا أنه عكس الترتيب لأنه كأنه قال: العجب غير مختص بالإنسان بل الحيوان المنتشر من التراب الساكن عجيب أيضًا. والانتشار إما بمعنى التردد في الحوائج كقوله: {فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} [الجمعة: 10] وإما بمعنى البث والتفريق كقوله: {وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساء} [النساء: 1].
وحين بين خلق الإنسان ولم يكن مما يبقى على مر الزمان منَّ عليهم بأن جعل نوع الإنسان باقيًا بتعاقب الأشخاص فقال: {ومن آياته أن خلق لكم} ولا يلزم منه أن لا يكنَّ مخلوقات للعبادة والتكليف لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه، فقد يكون الشيء مختصًا باثنين وجعل مهيأ لآخرين على أن النعمة ما كانت تتم علينا إلا بتكليفهن، فلولا خوف العقاب لتمردت النسوان على أزواجهن.
و{من أنفسكم} أي من جنسكم أو هو إشارة إلى أن حواء خلقت من ضلع آدم وقد مر في النحل ويشهد للتفسير الأول قوله: {لتسكنوا إليها} فإن الجنس إلى الجنس أسكن {وجعل بينكم مودة} عن الحسن هي الجماع {ورحمة} هي الولد. وقال غيره: المودة حالة حاجة نفسه إليها، والرحمة حالة حاجة صاحبته إليه، وقد تفضي المودة إلى مجرد الرحمة وذلك إذا خرجت عن محل الشهوة بكبر أو مرض، أو خرج عن إمكان رعاية حقها بكبر أو زمانة أو فقر. قال بعضهم: المودة والرحمة بعصمة الزواج من غير سابقة معرفة وقرابة وهي من قبل الله، والفرك من قبل الشيطان {إن في ذلك} الخلق والجعل {لآيات لقوم يتفكرون} فخلق الإنسان من الوالدين آية، وجعل أحدهما ذكرًا والآخر أنثى آية، وخروج الولد الضعيف من الموضع الضيق آية، وجعل التوادد بين الوجين من غير صلة رحم آية ولما ذكر دلائل الأنفس أتبعها دلائل الآفاق وأعظمها خلق السموات والأرض، فإن خلق المركبات قد يسنده بعض الجهلة إلى ما في العناصر من الكيفيات وإلى ما في السموات من الحركات والاتصالات، وأما السماء والأرض فلا يجد بداص من أن يقول: إنهما بقدرة الله تعالى. ثم عاد إلى ذكر أحوال الأنفس ومن جملتها اختلاف الألسنة لا جرمها، فإن التباين بين أجرامها ليس يبلغ إلى حد يعد آية بل وصفها وهو النطق وتقطيع الأصوات اللذان بهما يمتاز بعض الأصناف والأشخاص عن بعض، واختلاف الألوان والحلي فبذلك يقع التفاوت ويرتفع الاشتباه، فحس البصر يدرك اختلاف الصور وحسن السمع يدرك اختلاف الأصوات وأما اللمس والشم والذوق فلا حكم ظاهرًا لها في باب التمييز بين الأشخاص الإنسانية. وحيث ذكر بعض العرضيات اللازمة أراد أن يذكر الأعراض المفارقة بعضها فقال: {ومن آياته منامكم} قال جار الله: هذا من باب اللف والنشر وتقدير الكلام. ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار ليكون موافقًا لما جاء في مواضع آخر كقوله: {وجعلنا الليل لباسًا وجعلنا النهار معاشًا} [النبأ: 10، 11] وقدم المنام على الابتغاء لأن الاستراحة مطلوبة لذاتها والطلب لا يكون إلا لحاجة قال: وإنما فصل بين القرينتين الأوليين بالقرينتين الآخريين لأنهما زمانان، والزمان والواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على الاتحاد يعني كأنه لم يعطف النهار على الليل والابتغاء على المنام. وجوز أن يراد منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار، فان الإنسان كثيرًا ما ينام بالنهار وبكسب بالليل.
وفي اقتران الفضل بالابتغاء إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من نفسه وبحذقه بل يرى كل ذلك من فضل ربه. ثم أشار إلى عوارض الآفاق فقال: {ومن آياته يريكم} فأضمر أن واسكن الياء بعد حذفها وإنزال الفعل منزلة المصدر كما في المثل السائر تسمع بالمعيدي خير من أن تراه قيل: لما كان البرق من الأمور التي تتجدد زمانًا دون زمان ذكره بلفظ المستقبل ولم يذكر معه أن وقيل: ومن آياته كلام كافٍ كما تقول: منها كذا ومنها كذا.
وتسكت تريد بذلك الكثرة: وقيل: أراد ويريكم من آياته البرق. وانتصاب {خوفًا وطمعًا} كما مر في الرعد ثم ذكر بعض لوازم الآفاق قائلًا {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} فقيام السموات والأرض استمساكهما بغير عمد، ومن نسب ذلك إلى الطبيعة فلابد أن يستند الطبع إلى واجب لذاته وأمره أن يقول لهما كونا كذلك نظيره قوله: {إن الله يمسك} [فاطر: 41] إلى قوله: {من بعده} [فاطر: 41] واعلم أن الأمر عند المعتزلة موافق للإرادة، وعند الأشاعرة ليس كذلك. ولكن النزاع في الأمر الذي هو للتكليف لا الذي للتكوين، فإن قوله: {كن فيكون} [يس: 82] موافق للإرادة بالتفاق. قال جار الله: قوله: {إذا دعاكم} بمنزلة قوله: {يريكم} في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى كأنه قال: ومن آياته قيام السموات والأرض، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاكم مرة واحدة يا أهل القبور اخرجوا والمراد سرعة الخروج من غير توقف وإلا فلا أمر ظاهرًا. أو أراد نداء الملك والأرض مكان المدعو على التقديرين لا الداعي إذ لا مكان لله مطلقًا ولا للملك في جوف الأرض. نعم، لو كان المراد أن الملك يدعوهم وهو على وجه الأرض جاز. ومعنى ثم عظم ما يكون من ذلك الأمر وتهويل لتلك الحالة، وإذا الأولى للشرط، والثانية للمفاجأة نائبة مناب الفاء. واعلم أنه تعالى ذكر في كل باب أمرين: أما من الأنفس فخلق البشر ثم خلقهم زوجين، وأما من الآفاق فخلق السموات والرض. ومن لوازم الإنسان اختلاف اللسان والألوان، ومن عوارضه المنام والابتغاء، ومن عوارض الآفاق البروق والأمطار، ومن لوازمها قيام السماء والأرض. والواحد يكفي للإقرار بالحق، إلا أن الثاني يجري مجرى الشاهد الآخر.
وراعى في تعداد العرضيات لطيفة، بدأ باللوازم وختم باللوازم وذلك أن الإنسان متغير الحال، فالأحوال اللازمة له أغرب والأفلاك ثابتة بالنسبة إلى الإنسان فعوارضها أغرب، وبدأ في كل باب بما هو أعجب، وإنما ختم الآية الأولى بقوله: {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} لأن الفكر يؤدي إلى الوقوف على المعاني المقتضية للإنس والسكون وعلى دقائق صنع الله في خلق الإنسان وبثهم في الأرض، أو نقول: إن من الأشياء ما يعلم بمجرد الفكر كدقائق حكمة الله في خلق الإنسان، لأن أقرب الأشياء إلى الإنسان هو ذاته فلذلك قال هنالك {لقوم يتفكرون} ومنها ما يعلم من غير تجشم فكر كالاستدلال على قدرة الله بخلق السماء والأرض، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم، فإن الكل تظلهم السماء وتقلهم الأرض.
وكل واحد منفرد بلطيفة في صورته يمتاز بها عن غيره، ولهذا يشترك في معرفتها الناس جميعًا فلهذا قال: {لآيات للعالمين} ومن حمل اختلاف الألسن على اللغات اختلاف الألوان على البياض والسواد والصفرة والسمرة، فالاشتراك في معرفتها أيضًا ظاهر. ومن قرأ {للعالمين} بكسر اللام فقد أحسن، فبالعلم يمكن الوصول إلى معرفة ما سبق ذكره، ومن الأشياء ما يحتاج الفكر فيه إلى إعانة مرشد كالمنام والابتغاء فإنهما لزوالهما في بعض الأوقات قد يرفعان لوازمهما فلهذا قال: {لقوم يسمعون} ويجعلون بالهم إلى كلام المرشد، ومن هنا ذهب بعضهم إلى أن معنى {يسمعون} هاهنا يستجيبون لما يدعون إليه، ثم إن حدوث الولد من الوالدين كالأمر المطرد العادي فكان الولد يمكن أن يسبق إلى الوهم إسناده إلى الطبيعة فأمر هنالك بالفكر. وأما البرق والمطر فليس أمرًا عاديًا ولذلك يختلف بالشدة والضعف وبحسب الأوقات والأمكنة فالعقل الصحيح يجزم بأن من فعل الفاعل المختار فلذلك قال: {لقوم يعقلون} وقيل: إن العقل ملاك الأمر وهو المؤدي إلى العلم فوقع الختم عليه. وحين فرغ من تعداد الآيات وكان مدلولها الوحدانية التي هي الأصل الأول والقدرة على الحشر التي هي الأصل الآخر أكد الأول بقوله: {وله من في السموات والأرض كل له قانتون} مطيعون منقادون وأكد الأصل الآخر بل كلا الصلين بقوله: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو} يعني أن يعيده {أهون عليه} أي في نظركم وعند معقولكم وإلا فلا صعوبة في الإبداء أصلًا حتى يقع التفضيل على حده. وإنما أخرت الصلة هاهنا وقدمت في قوله في سورة مريم و{وهو على هين} [مريم: 9] لأنه قصد هناك الاختصاص يعني أن خلق الولد بين هرم وعاقر لا يهون إلا علي، ولا معنى للاختصاص هاهنا فإن الأمر مبني على المعقول بين الآدميين من أن المعاد أهون من المبدأ ولهذا قيل: أول الغزو أخرق. وليس الدخيل في أمر كالناشئ عليه. ومن الدليل العقلي على هذا المطلوب أن الإبداء خلق الأجزاء وتاليفها، والإعادة تأليف فقط، ولا شك أن أمرًا واحدًا أهون من الأمرين ولا يلزم منه أن يكون في الأمرين صعوبة فإن من قال: الرجل القوي يقدر على حمل شعيرة من غير صعوبة وسلم السامع له ذلك فإذا قال فلان لا يتعب من حمل خردلة وإن حمل خردلة أهون عليه.
كان كلامًا معقولًا وقد أجرى الزجاج قوله: {وهو أهون عليه} مجرى المثل فيما يصعب ويسهل.